مصادر الثقافة لدى الطفل

                                                                                 
عندما يخرج الطفل إلى الحياة الدنيا ويقبل على عالم مغاير لعالمه الذي كان فيه قبل مجيئه ، جاء إلى هذا العالم وهو لا يحمل من الإدراك ، أو الوعي شيئاً. يخرج وهو جاهل بأبسط الأشياء غير أن غريزة الجوع تحثه على طلب الغذاء من ثدي أمه فقط وهذه غريزة لا معرفة ؛ فالله سبحانه وتعالى يقول : « والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً » (1).
يأتي السؤال هل توجد طريقة مثلى لكي يتعلم الطفل المعارف والعلوم في مثل هذه السن ؟
للجواب عن هذا السؤال نقول : هناك طرق ، من ابرزها طريقان :



 

الطريق الأول :

التقليد :

والتقليد حقيقة في محاكاة فعل الغير وتصرفاته سواء كان عن وعي لهذا التقليد أو لا ، صادر عن تعظيم المقلد وإجلاله أو غير ذلك.
وفي هذه المرحلة والتي يكون الطفل فيها في مرحلة السذاجة يقوم بتقليد والديه بشكل خاص ، والمحيطين به بصورة عامة في تصرفاتهم التي يراها منهم ؛ بحيث يصب الطفل في هذه الفترة جل اهتمامه على مراقبة حركات وسلوك المحيطين به بشكل دقيق.
اختلف العلماء في تحديد مقدار بداية تقليد الطفل لوالديه ؛ فمنهم من يقول : بعد ثلاثة أشهر من الولادة ؛ ومنهم من يقول : بعد أشهر أو سنة.
 ولكن هناك نظرية تقول : إن الطفل يبدأ تقليده بعد ستة وثلاثين ساعة بعد الولادة. حيث قام الأطباء بجامعة ميامي الأمريكية بإجراء تجربة على مجموعة كبيرة من الأطفال حديثي الولادة أثبتت أن الطفل لديه قدرة كلية على التحكم في عضلات وجهه ، والتقليد في سن مبكرة تبدأ بعد ست وثلاثين ساعة من ولادته. كما أن ضحك الطفل ليس لأنه يشعر بالسعادة ، وإنما يقلد التعبيرات المرسومة على وجه أمه. والدليل على ذلك أنه يرسم التكشيرة على وجهه لو كان التعبير على وجه الأم غير سعيد.
وقد قام الأطباء بمواجهة مجموعة من الأطفال بممثلات قمن بعمل تعبيرات مختلفة بعضلات الوجه قلدها الأطفال ، وانتقلوا من تعبير السعادة للحزن والاندهاش بسرعة ، وأكد الأطباء أن هذه التعبيرات يتعلمها الطفل في سن مبكرة ، وتكون بدون معنى على أنها تأخذ المعنى فيما بعد (1).

    لذا يستطيع أن يستفيد المربون ، أو الوالدان من هذه الصفة في الوليد بأن يعلموه ما يريدون أن يعرفه من خلال تصرفاتهما أمامه ، فهو يحاكي تصرفاتهم ويقلدهم ؛ فأنت إذا أردت أن يتعلم ولدك القراءة ويحبها مثلاً يجب عليك أن تمسك أمامه كتاباً وتقرأ ، وهو سيحاول أن يقلدك ويأخذ كتاباً يعبث به لأنه يريد أن يستكشف الشيء الذي جذب اهتمامك وتفكيرك ، وأنت بهذه الطريق لا تحتاج أن تلقي عليه محاضرات في أهمية القراءة والكتاب ، وهكذا كل فكرة تحب أن تغرسها في ذهن أطفالك ؛ فما عليك إلا أن تظهرها لهم بشكل تجذبهم إلى أن يقلدوك ويتعلقوا بهذا الشيء الذي تعلقت أنت به.

لوعلماء النفس يقولون : إن تقليد الطفل يشتد عند بلوغه الثالثة حتى السابعة من عمره ثم يقل تقليده شيئاً فشيئاً.
ولهذا يجب أن يبعد الطفل عن كل مظهر سيء أو كل الأفراد السيئين حتى لا يتأثر ولتراع وهذه المسألة بما تستحق من الأهمية.


الطريق الثاني :

 الاستكشاف للعالم الخارجي :

 أ ـ ما يكون الاستكشاف لكل الأطفال على حد سواء.
إن مصادر الثقافة عند البشر تعتمد على أساسيات الحواس الخمس ؛ فهي المحرك الأول للثقافة عنده ؛ فالعلم بالمبصرات ومعرفة حقيقة الألوان تتوقف على النظر إليها ومشاهدتها وهكذا باقي المعارف ، لذلك قيل : « من فقد حساً فقد علماً ».
والطفل الحديث الولادة يتعامل مع الأمور الخارجية من خلال تفاعله مع هذه الحواس ، وما يؤثر فيها سلباً أو إيجاباً.
في بداية تعرفه على العالم يبدأ الطفل من خلال حاستين السمع والبصر ؛ فهو يحتاج إلى تقوية هاتين الحاستين من خلال عدة أمور ، وقد ذكرنا منها الموسيقى على رأي ابن سينا ، وكل صوت ناعم يشكل أراجيز وأشعاراً مصغرة بشكل جميل تطرق مسامع الطفل فترهف نفسه ، وتحسن روحه لهذه النغمات الهادئة ، وكذلك حاسة الإبصار حيث ينظر إلى الوجود ، وإلى الصور وإلى الأشياء المختلفة ؛ فيحاول التعرف عليها لذلك يبتسم لها ويفرح لفرحها ويحزن لحزنها سواء كان تقليداً لما يراه كما قلنا ، أو تقمصه حقيقة ما يقلد وهذا في حد ذاته قدرة على التعامل مع الظواهر الخارجية له.
وهكذا يبقى حاله حتى ثلاثة أشهر حيث يكتشف عضواً آخر من جسده ، وهي يده فيقوم بمصها كأسلوب لمعرفتها جيداً.

ويحدق فيها في الفترة التي يكون فيها في حالة اليقظة ، ويلاحظ حركتها ويلفت انتباه هذا الحدث عنده ، ومن خلال يده يحاول التوصل إلى الأشياء القريبة منه ، وهذه الخطوة تعد أول خطوات نمو القدرة والذكاء حيث تنمي عنده حاسة البصر ، وقوة التركيز على الأمور القريبة منها ، فهو ينظر لها بشيء من الإرادة.
ويمكننا القول إنه يتعرف على كل الأمور بالشكل المتاح له ، والذي يستطيع أن يفعله. وهذه الملاحظة تعد المحور الأساسي في عملية متابعة حركة النمو عند الطفل ؛ فبلحاظ كل فترة زمنية له خصوصية تؤثر فيها بعض الأمور. وتقيم على حسب حاله ، تختلف عنها في الفترة الأخرى ؛ فقد يكون في المرحلة المتقدمة يعد متطوراً ولكن بلحاظ المرحلة الثانية يعد متخلفاً ؛ فمثلاً عندما يعزم طفل بلغ من العمر ست شهور على أخذ شيء ملقى على وجه الأرض هذا الفعل بالنسبة للإنسان الذي يفوق هذا العمر يجد هذا الفعل لا يدل على شيء من الذكاء أو المقدرة ؛ فهذا أمر عادي جداً ، ولكن بالنسبة لهذا الطفل يعد شيئاً رائعاً ويدل على ذكاء وقدرة عالية عند الطفل ؛ لأنه يظهر قدراً كافياً من التنسيق في سلوكه فعليه عدة أمور حتى يحصل على الشيء الذي يريده وهي :
أولاً : عليه أن يحدد مكان الشيء من خلال عملية الإبصار قبل أن يصل إليه ويتناوله.
ثانياً : يقوم بمد يده بسرعة وبدقة إلى مكان تواجد هذا الشيء.
ثالثاً : ويقوم بطريق تدل على قدرة من النضج ، وقبل أن يصل إلى ذلك الشيء يقوم إما بفتح يد أصابعه وإما يطبقها للمسك بهذا الشيء.
رابعاً : وعندما يمسك ذلك الشيء يقوم بأكثر من عمل ، كأن يحدق فيه ويقوم بتحريكه إلى الأمام ، أو إلى الخلف ويقلبه لكي يحصل على أكبر من لقطة له ، وليتعرف عليه من خلال زوايا متعددة.

إلى غير ذلك من الأدلة التي أثبتتها تجارب العالم السويسري ( جين بياجه ). وهكذا يستمر نمو الطفل حتى يصل إلى مرحلة من خلالها يتفاعل ببعض الأمور المحاط بها.
وهذه المعارف تحصل لكل الأطفال بشكل قهري ما لم يكن هناك عيب خلقي كالتشوه ، أو تخلف لا سمح الله. والأطفال في ذلك كلهم متساوون في هذه المعارف والعلوم.

 بـ ـ ما يكون الاستكشاف فيه متفاوتاً ( اللعب ) :

ما يقال عنه لعباً في هذه الفترة هو في الحقيقة ليس باللعب. بل هو ضرب من ضروب التعرف ونوع من أنواع الاكتشافات التي تعد اللبنة الأولى لكل إنسان في فترة طفولته ، وتتفاوت المقدرة والذكاء من شخص إلى آخر بلحاظ هذه الفترة ومقدار الاستفادة التي استفاد منها في طفولته.
فبعد أن يعي الطفل ويؤتى من القدرة ما يجعله يتعامل مع الواقع الخارجي ينبثق بروح عالية ، ونفس متطلعة نحو كشف المجهول الذي يراه أمامه ؛ فيقدم عليه بكل ثقة واطمئنان لكي يلمس هذا ، أو يتذوق ذاك يحدق في هذه ، أو يرفع تلك ، جاهلاً بالأخطار التي تجلبها هذه الأمور.
فهو في حركة للمعرفة والتي تتشكل بأشكال مختلفة سماها الآخرون لعباً ، أو تخريباً أو مشغبة ونحوه. ونحن سنحاول التعرض إلى هذه المسائل بعدة نقاط :

النقطة الأولى :

اللعب حاجة روحية للطفل :

وكثيراً ما يخطئ بعض المربين والآباء في تقليل مدة اللعب ( سبع سنوات ) وملئها بالحياة الجدية ، والسعي لأن يكون الطفل في حالة التقدم العلمي والرقي ؛ فينقص التكامل الروحي للطفل على حساب التفوق العلمي. يقول بيرتون وايت : « وما نريد أن نوضحه هو تحذير المربين من التركيز على النبوغ دون الاهتمام بالنمو الجيد لأننا غالباً ما نحصل على التفوق العقلي على حساب كثير من المظاهر التي تساوي النبوغ في الأهمية » (2)
 النقطة الثانية : اللعب ميدان الاستكشاف:
عندما يطلق له العنان أو يراقب عن كثب يتولد لديه من هذا العمل الذي يزاوله تعميق دافع حب الاستطلاع ، وتنمية ذكائه بشكل كبير مما يساعد في صقل شخصيته ، وتزويدها بالخبرات اللازمة له عن المحيط الذي يعيشه ويتعامل معه ؛ فالطفل الذي تلسعه المدفئة بحرارتها فإنه يتعلم من هذه اللسعة أن هذا الجهاز مؤذي بالنسبة له ، وهذه أفضل طريقة لتعلميه. وإنك لو ألقيت عليه آلاف المحاضرات عن ضرر الاقتراب من المدفئة ، فإنه لا يفهم ذلك ولسعة واحدة تكفيه. فهو عندما يتقدم بالقرب منها تجده ينظر إليك ويقول : آح ! مثلاً .
لذلك ينصح علماء التربية بعدم وضع الأطفال في الحابسة التي يوضع فيها مع بعض الألعاب ؛ فإن ذلك يوثر سلباً على نفسيته وعلى حب الاستطلاع ، ومما يؤدي إلى إعاقة الأسلوب التربوي له في هذه الفترة وهي الاكتشاف للبيئة والمحيط الخارجي.

 

 النقطة الثالثة :

القدرة على التحليل والتوقع : 


    الطفل الذي يجعل البيت والبيئة ساحة لعب له ، ويقوم بالاستكشاف يتطور ذكاؤه ؛ وذلك عبر حركته الدؤوبة في فتح الأشياء وغلقها ورميها وإحداثها للأصوات إلى غير ذلك من الآثار. يقوم الطفل في أثناء لعبه بملاحظة تلك أي الآثار التي تنشأ من لعبه فيقوم بالربط بينها ؛ فهو عندما يلعب بمفتاح النور ؛ ( المصباح الكهربائي ) فعندما يرفعه تضاء الغرفة وعندما ينزل الزر يطفأ النور. فيقوم ويكرر العملية مرات بحيث يرسخ في ذهنه أن سبب الإضاءة هو رفع مفتاح النور ، وسبب الظلام هو إنزال مفتاح النور.
فهو من خلال لعبه يتعرف على نتائج فعله ويسعد بهذا الإنجاز والاكتشاف. لذا نجده يكرر الأفعال كثيراً حتى تستقر نفسه إلى التعليل الذي توصل إليه ، بل يرقى إلى مدارك أن يتوقع ماذا سيحدث لو فعل شيئاً معيناً. وذلك بعد قدرته على التعليل.


 النقطة الرابعة :

 الثقة بالنفس :

 
 فعندما يشجع على شيء فعله سواء برسم أو بناء بيت من المكعبات ، أو الطين ، ويحس بالثقة وأن أفعاله تنال إعجاب الكبار وتقديرهم ، وعندها يمضي قدماً أكثر ؛ فالطفل الذي يبدأ في خطواته الأولى من المشي ويكون والداه بالقرب منه يضحكان له ويشجعانه كلما يخطو خطوة نحوهما ، مثل هذا الطفل يجد أن محاولة المشي أمر يجلب له السعادة واللذة وأيضاً الثقة بأفعاله. 


 النقطة الخامسة :

تعليم القيادة وحسن التخطيط :


    إن من أهم المميزات التي يفيضها اللعب على الطفل هو تعليم القيادة وحسن التخطيط ، وذلك أن الطفل أول ما يبدأ بالألعاب أن يقسم بينها ، أو يجعل فريقاً للعب فيقود أنشطته ، ويحاول أن يوزع الأدوار بين اللعب فيعطي هذا دور الأب وهذا دور الابن أو هذا شرطي ، ذاك حرامي أو حارس أو لاعب إلى غير ذلك ، ويحاول أن يربط بين هذه اللعب ببعض الحوارات مما يقوي الثروة اللغوية عنده ، وينمي حسن الإبداع والخيال لديه أيضاً.
ويمكن أن يحصل الطفل على حسن التخطيط بمساعدة الوالدين ، فهما يقومان بعمل معين ليشرح لابنهما كيف جرى هذا الشيء ، أو حدث ذلك الشيء ، وما هي الخطوات المتبعة في ذلك ؛ فيقوم هو بعمل ذلك بينه وبين ألعابه أو الآخرين فيتعلم شيئاً فشيئاً كيف يجب أن تسير الأمور وتنظم.
أما القيادة والتي تعني تنظيم الآخرين وقيادتهم حسب أفكار القائد ، هذه الصفة لا تحدث إلا بعد أن يدرك الطفل حسن التخطيط ؛ فيقوم في اللعب الجماعي الذي بينه وبين الأطفال الآخرين بترتيب أدوارهم كما رتب أدوار ألعابه ، يقوم بإصدار بعض الأوامر البسيطة التي تناسب شأنهم ، ولا يمكن أن يحصل الطفل على هذه القدرة ما لم يشارك الآخرين في اللعب ، ويشير بعض علماء التربية إلى أن هذه القدرة من تعلم القيادة تبدأ في السنة الثانية للطفل. لذا يجب أن تنمى هذه المهارة بإعطاء فرصة للطفل بأن يقوم ببعض السلوك القيادي عند تعامله مع الوالدين ، أو الأشخاص الذين يتناولون تربيته ، كأن يجعلوا الطفل يقرر بعض الأمور مثل ذهابه إلى الحديقة أو بيت الجدة ؛ فعندما يختار ينفذ اختياره وهكذا. ثم ينطلق بعدها إلى الواقع الخارجي في أثناء لعبه مع الأطفال حتى يستطيع بعد ذلك إدارة أموره والاعتماد على نفسه.

النقطة السادسة : تقوية الروابط الاجتماعية :
إن الطفل الذي يشارك غيره في اللعب يتعلم من خلاله أشياء كثيرة يكتسبها أثناء لعبه. منها معرفة الحاجة إلى التعاون مع الآخرين ، وكيف أن التعاون يؤدي إلى نجاح اللعب وعدم التعاون يؤدي إلى فشله. كما سيصطدم مع بعض الأطفال الذين لا يرغبون في تحقيق رغباته وطموحاته ؛ فيعي أنه لا يمكن أن يحصل على كل شيء كما كان يحصل عليه من والديه ، وأن هناك أموراً يشترك فيها مع الآخرين ، وأموراً يختلف فيها معهم ، فيتعلم ما هي نقاط المميزات التي حصل عليها ، وما هي نقاط ضعفه إلى آخره.




1 ـ اطفالنا ومشاكلهم الصحية : ص 221.
2 ـ الطفل من ثلاث سنوات : ص 201.

هناك تعليقان (2):

  1. نحن نحتاج الى أن نزرع في عقول اطفالنا كيفية التعامل الصحيح مع مايواجهونه من صعوبات تعليمية او اجتماعية.
    مثلا كيف تنمي لدى الطفل روح المحبة لدى الطفل الآخر داخل المنزل. ونفس الشي خارج المنزل.
    ولذلك فأن تنمية ثقافة الطفل مهمة جدا.

    ردحذف
  2. وفقك الله جهود رائعه

    ردحذف